لكلٍّ منّا عاداتُهُ المتكرّرة التي نحاولُ جاهدين تركَها وتقويمَها لتجنُّبِ الآثارِ السلبيّةِ التي قد تترتّبُ عليها، قد نُفلحُ أحيانًا ويصبحُ بإمكانِنا التخلّي عنها، أو تستمرُّ محاولاتُنا دونَ جدوى، ونشعرُ بالقلقِ حِيالَ كيف يبدو مظهرُنا بالفعل؟ وكيف يرانا الآخرون؟، سواءً كنت تقضِمُ أظافرك، أو تحاولُ نتفَّ شعرِك، أو تميلُ إلى عضِّ خدِّكَ من الداخِل، فأنتَ قد ترغبُ بتركِ تلكَ العادةِ بالفعل، وتجنُّبِ أضرارِها المُزعجة، ولتتعرَّفَ أكثر عن السلوكِ التكراريّ المركِّز على الجسم، يمكنُكَ الاطّلاعُ على محاورِ هذا المقال.
ما هي السلوكيّات التكراريّة المركِّزة على الجسم؟
سلوكياتٌ متكررة تُركزُ على الجسم أو السلوكيّاتُ التكراريّة المركِّزة على الجسم (Body-focused repetitive behaviors or BFRBs)، هي الحالةُ التي ينخرطُ فيها الشخص في قيامهِ بسلوكٍ مركَّز على جسده مرارًا وتكرارًا، مثل قضمِ الأظافر، وقطف الجلد (Skin picking)، بصرفِ النظرِ عن مقدارِ الألم الذي يشعرُ به أو الأذى الذي يتعرَّضُ له، ويكونُ هذا السلوك بمثابةِ عادةٍ تتكرّرُ دون وعيٍ وإداركٍ تامّ من الشخص، أو سلوكٍ قهري ومُلحّ، يستخدمهُ عادةً لتخفيفِ قلقِه وتوتُّرِه.
ويشارُ إلى أنَّ معظمَ الحالاتِ التي تعاني من السلوكيّاتِ التكراريّة المركِّزة على الجسم تكونُ فيها هذه المشكلةُ طفيفة، وليسَ بالضرورةِ أن تدلَّ على وجودِ اضطرابٍ نفسيٍّ بالفعل، بل إنّ هذا السلوك قد يأتي عَرضَيًّا في ساعاتِ القلق، كأن يظهرَ أثناءَ الاستعدادِ لإلقاءِ كلمةٍ أمامَ مجموعةٍ من الناس، أو قبلَ الدخولِ إلى عيادةِ الطبيب، ومن جانبٍ آخر، قد يعاني البعضُ من اضطرابٍ مصنّف في الدليلِ التشخيصي والإحصائي للاضطراباتِ النفسيّة الطبعةُ الخامسة ( DSM-5)، يعرفُ باسم الاضطراب السلوكيِّ التكراريّ المركِّز على الجسم (Body-focused repetitive behavior disorder)، وغالبًا ما يواجهُ المصابُ بهذا الاضطراب صعوبةً في تركِ سلوكِهِ التكراريِّ المركَّز على الجسم.
أمثلةٌ على السلوكيّاتِ التكراريّة المركِّزة على الجسم:
عادةً ما تتضمّنُ السلوكيّاتُ التكراريّة القيامَ بالعضِّ، أو الالتقاط، أو السحب، أو طحن وصريرِ الأسنان، أو التكسير، ويركِّزُ هذا السلوك على أيِّ جزءٍ في الجسم، مثل الأظافر، والشعر، والجلد، والجزءُ الداخليُّ من الخد، والأسنان، والشفاه، ومن الأمثلةِ عليه:
– مضغُ الجزءِ الداخليِّ من الخدّ، أو الشفاه، أو اللسان.
– العبثُ في الأنف.
– قضمُ الجلدِ أو مضغُه.
– شدّ الشعر الموجود على الجسم.
كما أنّ بعضَ هذه السلوكيّاتِ القهريّة قد يكونُ لها مسمّياتٌ طبيّةٌ سريريّة وتشخيصٌ منفصلٌ بحدّ ذاته، مثل:
– التسحُج العَصبي (Excoriation): يُعرفُ أيضًا باسم اضطرابِ خدشِ الجلد (Skin-Picking Disorder)، الذي يميلُ فيه المصاب إلى محاولةِ التقاطِ الجلد، بفركِه، أو لمسِه، أو خدشِه، أو حفرِه، الأمرُ الذي قد يُسفِرُ عن ظهورِ ندباتٍ على البشرة، أو تغيُّر لونِ الجلد، أو تضرُّرِه.
– هوسُ نتفِ الشعر (Trichotillomania): يتميّزُ بتكرارِ نتفِ الشعر الذي يغطّي فروةَ الرأس، أو منطقةَ العانة، أو الصدر، أو الوجه، أو الاستمرارُ بنتفِ شعرِ الحواجِب أو رموشِ العين، وقد تظهرُ بُقعُ الصّلع لدى الأشخاص الذين يعانونَ من هوسِ نتفِ الشّعر، وكثرةِ تساقُطه، بسببِ سحبِ الشعرِ بشِدّة.
– قضمُ الظفر (Onychophagia) أو (Nail biting): الذي يتميّزُ بقضمِ الأظافِر المعتاد، وهو من السلوكيّاتِ الشائعة التي تبدأُ عادةً خلالَ مرحلةِ الطفولة، وقد تكونُ سببًا في حدوثِ ضررٍ مستمرّ في الأظافِر والجلد.
ما الأسبابُ المحتملةُ لحدوثِ السلوكيّاتِ التكراريّة المركِّزة على الجسم؟
يجهلُ الأطبّاءُ السّببَ الأساسيَّ الذي يؤدّي إلى إثارةِ حدوثِ السلوكيّاتِ التكراريّة المركِّزة على الجِسم، ولكنّها ترتبطُ عادةً بالتعرُّضِ للضغوطات من البيئةِ المحيطة والعواملُ التي تؤثّرُ سلبًا على الصحّةِ النفسيّة، فعلى سبيلِ المثال، قد تتعلّقُ هذه السلوكيّات باضطراباتِ القلق، بما في ذلك:
– اضطرابُ القلقِ العام أو اضطرابُ القلقِ المعمَّم (Generalized Anxiety Disorder or GAD): يشعرُ فيه المُصاب بقلقٍ متواصلٍ ومزمِن تجاهَ العديدِ من الأشياء دونَ معرفةِ سببِ حدوثِ هذا القلق، وفي هذه الحالة قد يتطوّرُ لديه سلوكيّاتٌ اندفاعيّة قهريّة للتأقلُم مع القلقِ الذي يعانيه.
– الاضطرابُ الوسواسيُّ القهري (Obsessive-compulsive disorder or OCD): وهو الاضطرابُ الذي ينطوي على قيامِ المُصاب بطقوسٍ معيّنة أو سلوكيّاتٍ قهريّة لتخفيفِ القلقِ الذي يشعرُ به، والسيطرةُ على الأفكارِ والتخيلاتِ المتطفّلةِ والمخيفةِ والمفاجئة التي يعانيها، مثل فحصِ الأشياءِ أو عدُّها أو ترتيبُها باستمرار، وفي حالةِ معاناتهِ من الاضطرابِ الوسواسيِّ القهري والسلوكيّاتِ التكراريّة المركِّزة على الجسم، فإن أفكارُهُ المتطفّلة قد تدفعهُ إلى القيامِ بالسلوكِ المتكرّر، كما هو الحالُ مع محاولةِ التقاطِ الجلد والعبثِ به في حالةِ الشعورِ بوجودِ الجراثيم عليه.
كيف تُعالَج السلوكيّات التكراريّة المركِّزة على الجسم؟
لا يوجدُ علاجٌ محدّدٌ موافقٌ عليهِ للتخلُّص من السلوكيّاتِ التكراريّة المركِّزة على الجسم، ولكنّهُ غالبًا ما يستهدفُ السيطرةَ على المشكلةِ التي تثيرُ السلوكَ القهري، مثل تخفيفِ القلقِ والتوتُّر المسبِّب للسلوكِ المتكرِّر، وعمومًا، من أهمِّ الطُرُقِ المتَّبعةُ لعلاجِ السلوكيّاتِ التكراريّة المركِّزة على الجسم ما يأتي:
– العلاجُ النفسيّ: إذ يستخْدِمُ علمُ السلوكِ (Behavioral science) والتدخّلِ السلوكي لاستهدافِ سيرِ السلوكيّاتِ التكراريّة، والتعرُّفِ على المحفِّزات الداخليّة والخارجيّة للسلوكِ المتكرِّر، ورسمِ طريقةِ علاجٍ محدّدةٍ لتخفيفِ السلوكِ التكراريِّ المركِّز على الجسم والسيطرةِ عليه، وتُعرَفُ هذه الطريقةُ في العلاجِ النفسيِّ باسم:(العلاجُ المعرفيُّ السلوكي) (Cognitive behavioral therapy).
– العلاجُ بالأدويَّة: لا يتوفّرُ في الوقتِ الراهِن دواءٌ يُسهِمُ في علاجِ السلوكيّاتِ التكراريّة المركِّزة على الجسم، ولكن قد يصِفُ الطبيبُ في بعضِ الحالات أنواعًا محدّدةً من الأدوية النفسية للسيطرةِ على الأسبابِ التي قد تُحفِّزُ ظهورَ السلوكيّاتِ التكراريّة.
استراتيجيّات مساعدةِ الذات للسيطرةِ على السلوكيّاتِ التكراريّة المركزَة على الجسم:
قد يتمكّنُ الشخصُ الذي يعاني من هذه السلوكيّات اتّباعُ مجموعةٍ من الاستراتيجيَّات للسيطرةِ على مشكلتِه وتجنُّبِ آثارِها السلبيّة، ومن أهمِّ هذه الاستراتيجيّات:
– “تثبيطُ السلوك” (Behavior blocking): أي محاولةُ وضعِ حاجزٍ يساعدُ على التوقُّف وعدمُ المتابعة قبل الانخراطِ في السلوكِ التكراريّ، أو تقليلُ خطورةِ التعرُّضِ للإصابةِ والضّرر بسببِ هذا السلوك، مثل الحرصِ على ربطِ الشعر أو تغطيتُه بالشال لمنعِ شدِّه وسحبِّه باستمرار، أو ارتداءُ القُفَّازات لتقليلِ احتماليّةِ القيامِ بقضمِ الأظافِر، أو وضعِ حامي للأسنان لمنعِ مضغِ الخدِّ من الداخِل.
– “بديلُ التحفيز” (Stimulation substitute): أي إيجادُ البديل للسلوكِ المتكرِّر، مثل مضغِ العلكة، أو تمزيقُ ورقة، أو الضغطُ على الدُمى التي تُستخدَمُ لتخفيفِ الاجهاد، كذلك يمكنُ ممارسةُ الهواياتِ التي تساعدُ على انشغالِ اليدينِّ باستمرار.
– التعرُّف على المحفِّز أو المثير: يمكنُ الاستعانةُ بدفترِ مذكِّرات لكتابةِ المحفِّزات للسلوكِ المتكرِّر، والتمكُّن من السيطرةِ عليه، وقد يساعدُ الطبيبُ المعالجُ على إيجادِ أفضلِ الطُرق لفهمِ هذه المحفِّزات والسيطرةِ عليها قدرَ الإمكان.
التأقلُم مع وجودِ السلوكيّاتِ التكراريّة المركِّزة على الجسم:
ثمّةَ العديدُ من الطرقِ التي يمكنُكَ اتّباعُها للسيطرةِ على الأعراض وتحسين جودةِ الحياة في حال كنتَ تعاني من مشكلةِ السلوكيّاتِ التكراريّة المركِّزة على الجسم، أهمُّها:
– اليقظةُ الكاملة(Mindfulness): يُمكنكَ عند بدءِ التحفيز محاولةَ التوقُف وملاحظةَ طبيعةِ مشاعِرك في لحظَتِها، وما يحتاجُه جسمُك بالفِعل، وهذا ما قد يُسهِّلُ عليكَ إيجادَ طرقٍ بديلةٍ للقيامِ بالسلوكيّاتِ التكراريّة، تُلبّي تلكَ الاحتياجات، مثل الاتصالِ مع صديق، أو احتضانُ حيوانٍ أليف، أو كتابةُ مذكِّرات، وغيرَ ذلك.
– الانضمامُ إلى مجموعاتِ الدّعمِ التي تجمعُ أفرادًا يعانونَ المشكِلةَ ذاتها، إذ يُمكنُها توفيرُ طُرقٍ جديدةٍ للتأقلُم والتعامُل مع المشكلة.
– العطفُ الذاتيّ(Self-compassion) والتعامُل مع النفسِ بلطفٍ شديد: الأمرُ الذي قد يساعدُ على تحريرِ عواطفِك التي تسهمُ في تثبيطِ عافيتِك وصحَتِك، وفي هذا السياق، يمكنُ تقديمُ العطفِ الذاتيّ عن طريقِ لمسِ الجسم بلطف والعنايةِ به، وتدليكُ الكتفين، وتمريرُ اليدينِّ على الشعرِ بنعومة، أو حتى العنايةُ بالبشرة والاستحمامُ بماءٍ دافئ، كذلك يمكنُ التعاطُف مع الذات بقولِ عباراتٍ لطيفةٍ أثناءَ التحدُثِ مع النفس بدلًا من الانتقادِ المتواصِل.
في كثيرٍ من الأحيان تكونُ السلوكيّاتُ التكراريّة المركِّزة على الجسم طفيفةً ولا تستدعي القلق، ونجِدُها شائعةً بشكلٍ كبير بين الأفراد، وعمومًا، يميلُ الأشخاصُ الذين يعانونَ من هذه السلوكيّاتِ التكراريّة في كثيرٍ من الأحيان إلى عدمِ طلبِ المساعدة من الطبيبِ أو المعالجِ النفسيّ حتى في الحالاتِ الشديدة بسببِ الشعورِ بالحَرَج والعار، غير أنّ المساعدةَ التي يقدِّمُها الطبيب قد تساهِمُ في السيطرةِ على المشكلة، لذلك يجبُ الأخذُ بعينِ الاعتبار مراجعةَ الطبيب في الحالاتِ التي يكونَ فيها السلوكُ التكراريّ سببًا في اضطرابِ جودةِ الحياة، أو يصعُب التوقُف عن القيامِ به، كذلك في حالاتِ تفاقُم هذه السلوكيّات، وتسبُّبِها بالضّرر.
***تمت الكتابة والتدقيق من قبل فريق المحتوى.
المراجع: