تتملّكُكَ في بعضِ الأحيان شكوكٌ مبالغٌ فيها، حولَ تصرفاتِ البعض أو نواياهم، ممّا يُدخلك في حالةٍ من الارتباكِ وعدمِ الراحة، قد تتلاشى برؤيتكَ الحقائِق والأدلّةَ الدامغة التي تُنكرُ ما يدورُ في رأسِك، ولكن يبدو أنّ هذا الأمر لا ينطبقُ بتاتًا على الأوهامِ والضلالاتِ غير المنطقيّة التي تتولّدُ لدى الشخص وتتملّكه، فيتبنّاها ويقتنِّعُ بها كليًّا كما لو كانت حقيقةً قطعيّة لا جدلَ فيها، ومن بينِ المشكلاتِ التي يصاحبُها ظهورُ أوهامٍ مضلّلة، حالةٌ تُعرفُ بـ:”متلازمة كابجراس”، والتي سنتعرفُ عليها أكثرَ في هذا المقال.
ما هي متلازِمةُ كابجراس؟
متلازمةُ كابجراس (Capgras syndrome) أو وهمُ كابجراس أو وهمُ كابغرا (Capgras delusion)، هي واحدةٌ من المشكلاتِ النفسيَّةِ النادرة التي تظهرُ على صورةِ اعتقادٍ غيرَّ منطقي، بأنّ محتالًا قد حلّ محلّ شخصٍ يعرفُهُ المصاب ويميّزه، أو أنَّ هذا الشخص الذي يميزهُ ويتعرَّفُ عليه هو نسخةٌ متضاعفة، شبيهةٌ بالمظهر ولكنّه ليس هو بالفعل، ويكونُ هذا الاعتقاد حقيقيًّا لدرجةٍ كبيرة، ممّا يجعلُ إنكارَهُ وتصحيحَهُ غيرُ ممكنٍ البتّة، وقد سُميّت متلازمةِ كابجراس بهذا الاسم نسبةً إلى اسم الطبيب(Capgras) الذي تعاملَ مع مريض يعاني من أعراضِ هذه المتلازِمةِ قبل نحوِّ مئةِ عام.
هل متلازمةُ كابجراس هي ذاتها متلازمةُ المُحتال؟
في الحقيقة، هما لا يعبّرانِ عن المشكلةِ ذاتِها، إذ يُطلِقُ البعضُ على متلازمةِ كابجراس اسم متلازمةِ المحتال(Impostor syndrome) على الرغمِّ من اختلافِ الحالتينِ عن بعضهما البعض، ربما لأنّ المصابَ بمتلازِمة كابجراس يعتقدُ بأنّ محتالًا قد حلّ محلّ أحدِّ أحبّته، ولكن تظهرُ متلازِمةُ المحتال التي تعتبرُ أكثر شيوعًا من متلازمةِ كابجراس على صورةِ اعتقادٍ بعدمِ امتلاكِ القدرةِ كما هي عليهِ بالفعل، وترتبطُ المشكلةُ بكونها اعتقادٌ داخلي حولَ النفس، وذلك على خلافِ متلازمةِ كابجراس التي تعبّرُ عن وهمٍ حقيقي يشعرُ به المصاب ويتملّكه.
ما هي أعراضُ متلازمةِ كابجراس؟
السمةُ الأساسيّة لمتلازمةِ كابجراس هي الاعتقادُ بأنّ شخصًا مقرّبًا قد استُبدِلَ بشخصٍ آخر محتال، أو نسخةٍ عنه، وقد يُقرُّ المصاب بأنّ هذا الشخص يبدو مطابقًا في شكله للشخصِ الحقيقي، ولكنّه مجرّدُ تنكُّر وتمويه، وفي بعضِ الحالات يتوهَّمُ المصاب بأنّ شيئًا جامدًا أو حيوانًا موجودًا في البيئةِ من حوله هو المحتال، كلّ هذا قد يتسبّبُ في ظهورِ مشكلاتٍ مختلفة، مثل:
- الشعورُ بالقلقِ والخوف.
- تغيّرُ السلوك.
- التعامُل بعنف تجاهَ الشخص الذي يعتقدُ أنّه محتال، ولكن لا يحدثُ هذا الأمرُ دائمًا، وقد يكونُ سببهُ وجودُ مشكلةٍ أخرى يعانيها الشخص.
- هوسُ التفكير بالشخصِ المحتال، والإصرارُ على إيجادِ الشخصِّ الحقيقي مهما كلّف الأمر، وهو ما قد يزيد من التوتُّر والغضب واحتدامِ الجِدالات بين المصابِ والأشخاصِ المحيطينَ به.
- ظهورُ أعراضٍ أخرى تعتمدُ على سببِ ظهورِ متلازمةِ كابجراس، مثل: أوهامُ جنونِ العظمّة، والانفصال أو التفكّك (Dissociation)، والهلاوس البصريّة والسمعيّة، وغيرها.
لهذا السّبب تكونُ أعراضُ متلازمةِ كابجراس محيِّرة ومزعجة للشخصِ المصاب والمحيطينَ به، ولكن على خلافِ المشكلاتِ النفسيّة الأخرى التي تؤثرُ عادةً على العديدِ من جوانِب حياةِ المصاب، فإنّ الشخصَ الذي يعاني من هذه المتلازمة يتصرفُّ بشكلٍ طبيعيّ في كافّة نواحي حياته ما عدا ما يتعلّقُ بتعامِله وموقِفه من الشخصِ الذي يعتقدُ أنّه مُحتال.
مخاطِر تترتَّبُ على متلازمةِ كابجراس:
من أبرزِ المخاطِر والمضاعفات التي قد تترتّبُ على الإصابةِ بمتلازِمة كابجراس:
- العُنف: قد يتولّدُ العنفُ لدى المصاب بمتلازمةِ كابجراس في بعضِ الحالات كما أشرنا سابقًا، وتزدادُ خطورةُ تطوّرِ العنفِ والسلوكِ العُدوانيّ بوجودِ عوامِل معيّنة، مثل تعاطي المخدِّرات، والمعاناةِ من العُزلة الاجتماعيّة، ووجودُ تاريخٍ سابق من السلوكِ العنيف، واستمرارُ الأوهام لفترةٍ طويلة، دون تحسّن، وغيرُ ذلك.
- تغيّرُ جودةِ الحياة: قد تؤثرُ متلازمةُ كابجراس أحيانًا في قدرةِ الشخص على الاندماجِ في العلاقاتِ الاجتماعيّة، والمحافظةِ على الوظيفة، لهذا السّبب قد تبدأُ لديه مشكلاتٌ أخرى، مثل التحدياتِ العاطفيّة، والتعرُّض للمشكلاتِ الماديّة، وغير ذلك.
- إيذاءُ النفس: ترتبطُ متلازمةُ كابجراس أيضًا بسلوكيّاتِ إيذاءِ النّفس.
ما هي أسبابُ الإصابةِ بمتلازِمة كابجراس؟
لا يوجدُ سببٌ محدّد يفسِّرُ حدوثَ متلازمةِ كابجراس، ولكن ثمّةَ مجموعةٌ من الأسباب التي وُجد أنّها قد تلعبُ دورًا في ظهورِ هذه المشكلة، منها:
- إصاباتُ الدماغ: قد تتأثّرُ وظائفُ الدماغ عند تعرّضهِ لإصابةٍ معيّنة، سواءً كانت الذاكرة، أو المزاج، أو التوازُن، أو القدرةِ على سماعِ الأشياء ورؤيتها والتحدُّثِ بها، وقد تؤدي إصاباتُ الدماغِ أيضًا إلى ظهورِ أعراضِ متلازمةِ كابجراس بسببِ انقطاعِ التواصل بين الغشاءِ الصدغي (Temporal cortex) والجهازِ النطاقي أو الجهازِ الطرفي (Limbic System)، الذي ينظِّمُ العواطِف.
- مشكلاتٌ عصبيّة: تحدثُ متلازمةُ كابجراس في بعضِ الحالاتِ بسببِ مشكلاتٍ تؤثرُ على الذاكرة وتُغيّرُ إحساسَ الشخصِ بالواقع.
- عمى تعرُّف الوجوه أو عمى تمييزِها (Prosopagnosia): اقترح بعضُ الخُبراء أنّ أوهامَ متلازمةِ كابجراس قد تحدثُ بسببِ حالة(عمى تعرّف الوجوه)، التي تجعلُ معرفةَ الوجوهِ المألوفةِ غيرُ ممكن، ومع ذلك، لم يوافق خبراء آخرون على ارتباطِ هاتين الحالتين ببعضهما البعض، لأنّ عدمَ القدرةِ على تمييزِ الشخص لا يعني بالضرورةِ أن يعتقدَ بأنّه قد استُبدل بشخصٍ محتال.
- الفصام والاضطرابُ الفصاميُّ العاطفيّ (Schizoaffective disorder): قد تكونُ هذه المشكلات سببًا في حدوثِ نوباتِ متلازمةِ كابجراس، إلى جانِب أعراض تغيّر الإحساس بالواقع، وظهورِ الأوهامِ والضلالاتِ وغيرِها.
- مشكلاتٌ أخرى: تظهرُ متلازمةُ كابجراس في بعضِ الأحيان إلى جانِب وجودِ مشكلاتٍ أخرى في الوقتِ ذاته، مثل الذُهان، والاكتئاب الذُهاني(Psychotic Depression)، واضطرابِ الشخصيّة الوسواسيّة (Obsessive-compulsive personality disorder)، وغيرُها.
ما العوامِل التي تزيدُ خطورةَ الإصابةِ بمتلازمةِ كابجراس؟
يوجدُ العديدُ من العوامِل التي قد تزيدُ من خطورةِ الإصابةِ بمتلازمةِ كابجراس، أهمُّها:
- الإصابةُ بمرض باركنسون أو الخَرَف.
- تعاطي المخدِّرات أو المشروباتِ الكحوليّة.
- الإصابةُ بمشكلاتٍ صحيّة معيّنة، مثل انخفاضِ مستوى هرموناتِ الدرقيّة، ونقصِ بعضِ العناصِر الغذائيّة في الجسم.
- وجودُ مشكلاتٍ أخرى في الصحَّةِ العقليّة.
- العُمر، فهو يصيبُ أكثرَ الأفراد في فترةِ مُنتصفِ العُمر.
- الجنس، إذ تكونُ متلازمةُ كابجراس أكثرَ شيوعًا بين الإناث، مقارنةً بتأثيرها في الذكور.
كيف يتمُّ تشخيصُ متلازمةِ كابجراس؟
لتشخيصِ الإصابةِ بمتلازمةِ كابجراس قد يُجري الطبيب ما يأتي:
- مراجعةُ التاريخ الصحّي للمصابِ بالكامل.
- سؤالُ الشخصِ عن الأدويةِ التي يتناولها في الوقتِ الراهن.
- مناقشةُ أفرادِ العائلة أو مسؤولي الرعايةِ عن المُصاب حولَ وقتِ ملاحظته ظهورِ الأوهام لديه، ومعرفةُ تفاصيل أخرى ذاتَ أهميّة.
- طلبُ إجراءِ فحوصاتٍ معيّنة لاستبعادِ وجودِ أسبابٍ أخرى قد تساهمُ في ظهورِ الأعراض، سواءً كانت فحوصات سريريّة أو فحوصاتٍ مرتبطةٍ بالصحّة العقليّة، مثل اختباراتِ المهاراتِ العقليّة، وتصويرِ الرنين المغناطيسي(MRI)، أو تخطيطُ أمواجِ الدماغ(EEG).
- إجراءُ تقييمٍ نفسيٍّ كامل للمصاب، مع الإشارةِ إلى أنّ الدليلَ التشخيصي والإحصائي للاضطراباتِ العقليّة، الإصدارُ الخامس(DSM-5) لا يضمُّ متلازِمة كابجراس ضمنَ الحالاتِ المشخّصة؛ كونها من المشكلاتِ نادرةِ الحدوث.
ما هو علاجُ متلازمةِ كابجراس؟
يعتمدُ تحديدُ نوعِ العلاجِ المناسِب لمتلازمةِ كابجراس على حالةِ الشخصِ المُصاب وطبيعةِ مشكلته، وهذا يعني أنّ الطبيب هو الشخصُ المسؤول عن تحديدِ الخطّةِ العلاجيّة الأنسب للمصاب، ولا بدَّ من اتباعِ تعليماته بحذافيرِها في هذا الخصوص، ومن الخياراتِ العلاجيّة التي يمكنُ الاعتمادُ عليها في علاجِ متلازمةِ كابجراس التالي:
- علاجُ المشكلةِ الصحيّة المسبّبة لأعراض متلازمةِ كابجراس:
- إذ يساعدُ علاجُ المشكلة على تخفيفِ أعراضِ متلازمةِ كابجراس والسيطرَةِ عليها.
- العلاجُ بالتوجّه الواقعيّ (Reality orientation therapy):
- يقومُ هذا العلاج على فكرةِ توجيهِ المصاب بالخرَف لاستيعابِ الواقع في بيئته، سواءً كان يتعلّقُ بالمكان، أو الوقت، أو الأشخاص من حوله، وتعزيزُ فهمِّ الأحداثِ من حوله، والتخفيفُ من شعورهِ بالقلق.
- العلاجُ بالتقدير(Validation therapy):
- يساعدُ هذا العلاج على تعزيزِ شعورِ المصاب بالأمان وتخفيفِ القلق وتعزيزِ الاسترخاء في حال كان يخافُ الشخص الذي يعتقدُ أنّه محتال، ويرغبُّ في أذيّته.
- العلاجُ السلوكيّ:
- يقومُ المعالجُ النفسيُّ في هذه الحالة بمناقشةِ الاعتقاداتِ الخاطئة مع المصاب بلطف وهدوء، مع الإشارةِ إلى الأدلة التي تؤيدها وتلك التي تعارِضُها، كما أنّه يساعدُ المصاب على تحدي الأفكار والمعتقداتِ الوهميّة التي تتولّدُ لديه، لتغيير كيفيّةِ الاستجابةِ لها والتعامُل معها.
قد يفيدُ العلاجُ العائليُّ أيضًا في التعامُل مع متلازمةِ كابجراس، والذي يهدفُ إلى توفيرِ بيئةٍ مريحةٍ وآمنة تخلو من التفاصيل والأحداث التي تسبّبُ التوتّر والقلق قدرَ الإمكان.
نصائِح عامّة لرعايةِ شخصٍ يعاني متلازِمة كابجراس:
عندما يكونُ أحد أحبّتك أو الأشخاص المحيطين بك يعاني من متلازمةِ كابجراس قد يساعدك اتّباع ما يأتي لرعايته:
- الحدّ من تعرّضه للشخص الذي يعتقدُ بأنّه محتال وقتَ حدوثِ النوبة، وفي حال كان هذا الشخص هو أنت، يمكنكَ طلبُ المساعدة من شخصٍ آخر ليتولّى رعايةَ المصاب حتى انتهاءَ النوبة التي يمرُّ بها.
- محاولةُ التعاطُف والصبر، إذ تسبّب متلازمةَ كابجراس خوفًا وقلقًا حقيقيًا للمصاب.
- الاعترافُ بمشاعِر الارتباك التي يعانيها الشخص المصاب، ومحاولةُ الدخول إلى عالمه الواقعي الذي يعيشُه في تلك اللحظة.
- عدمُ مناقشةِ المصاب بمتلازمةِ كابجراس حولَ المحتال الذي يظنُّ بأنّه يراه، أو محاولةِ تصحيحِ اعتقاده.
- محاولةُ إشعارِ الشخص الذي يعاني الأوهام بالأمان، إذ يمكنُ سؤاله عن ما يحتاجُه بالفعل في الوقتِ الراهن، وما إذا كان يرغبُ بالحديثِ مع الأخصائيِّ المعالج.
- اعتمد دائمًا على تأكيدِ الحضور بالتحدث أولًا وإسماع المصاب صوتك، يمكنكَ الترحيبُ به بصوتٍ عالٍ قبل رؤيتهِ لك إذا أمكن ذلك.
قد يكونُ من الصعب التعافي تمامًا من متلازمةِ كابجراس في بعضِ الحالات، غير أنّ تعاون أفراد العائلة مع المعالج النفسيّ يساعدُ بشكلٍ كبير على تخفيفِ مشاعِر الخوف والقلق لدى المصاب، وهذا يعني ضرورةَ الحِرص على توفيرِ الدعمِ اللازم له، وتشجيعه على زيارةِ الأخصائيِّ المعالج بانتظام، واتباعِ تعليماته بحذافيرها.
*** تمّت الكتابة والتدقيق من قِبَل فريق إعداد المحتوى.
المراجع: